فصل: تفسير الآيات (6- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (6- 14):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد (6) إِرَمَ ذَاتِ العماد (7) الَّتِي لَمْ يُخلق مِثْلُهَا فِي البلاد (8) وثمود الَّذينَ جَابُوا الصَّخْرَ بالواد (9) وَفِرْعَوْنَ ذي الأوتاد (10) الَّذينَ طَغَوْا فِي البلاد (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفساد (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عذاب (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمرصاد (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ابتدأ سبحانه لمن تقدم ذكره وجهاً آخر من الاعتبار، وهو أن يتذكروا حال من تقدمهم من الأمم وما أعقبهم تكذيبهم واجترامهم فقال: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله: {إرم ذات العماد} إلى قوله: {إن ربك لبالمرصاد} أي لا يخفى عليه شيء من مرتكبات الخلائق ولا يغيب عنه ما أكنوه {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} [الرعد: 10] فهلا اعتبر هؤلاء بما يعاينونه ويشاهدونه من خلق الإبل ورفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض، وكل ذلك لمصالحهم ومنافعهم، فالإبل لأثقالهم وانتقالهم، والسماء لسقيهم وإظلالهم، والجبال لاختزان مياههم وأقلالهم، والأرض لحلهم وترحالهم، فلا بهذه الأمور كلها استبصروا، ولا بمن خلا من القرون اعتبروا، {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} على عظيم طغيانها وصميم بهتانها {إن ربك لبالمرصاد} فيتذكرون حين لا ينفع التذكر {إذا دكت الأرض دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى}- انتهى.
ولما كان التقدير كما هدى إليه السياق: ليبعثن كلهم صاغرين ثم ليحشرن ثم ليحاسبن فيجازى كل أحد بما عمل، فإن آمنوا بذلك نجوا وإلا عذبهم الذي ثبتت قدرته على العذاب الأكبر بعد العذاب الأدنى بسبب قدرته على البعث بسبب قدرته على ما رأيتم من خلق الإبل والسماء والجبال والأرض على ما في كل من العجائب بسبب قدرته على كل شيء، وهذا هو المقصود بالذات، حذف زيادة في تعظيمه واعتماداً على معرفته بما هدى إليه من السياق في جميع السورة وما قبلها.
ولما طوى جواب القسم لإرشاد السياق إليه وتعويل المعنى عليه، وتهويلاً له مع العلم بأنه لا يكون قسم بغير مقسم عليه، وكان قد علمت القدرة عليه مما أشير إليه بالمقسم به، أوضح تلك القدرة بأمر العذاب الأدنى- للأمم الماضية، فقال مخاطباً لمن قال له في آخر تلك {فذكر إنما أنت مذكر} [الغاشية: 21] تسلية له صلى الله عليه وسلم وإشعاراً بأنه لا يتدبره حق تدبره غيره، وتهديداً لمن كذب من قومه: {ألم تر} أي تنظر بعين الفكر يا أشرف رسلنا فتعلم علما هو في التيقن به كالمحسوس بالبصر، وعبر بالاستفهام إشارة إلى أن ما ندبه إلى رؤيته مما يستحق أن يسأل عنه: {كيف فعل ربك} أي المحسن إليك بإرسالك ختاماً لجميع الأنبياء بالأمم الماضية بما شاركوا به هؤلاء من تكذيب الرسل وجعل محط نظرهم الدنيا، وعملوا أعمال من يظن الخلود، وبدأ بأشدهم في ذلك وأعتاهم الذين قالوا: من أشد منا قوة؟ فقال: {بعاد} أي الذين بلغوا في الشدة أن قالوا: من أشد منا قوة؟ وقال لهم نبيهم هود صلى الله عليه وسلم: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} [الشعراء: 129] ودل على ذلك بناؤهم جنة في هذه الدنيا الفآنية التي هي دار الزوال، والقلعة والارتحال، والنكد والبلاء والكدر، والمرض والبؤس والضرر، فقال مبيناً لهم على حذف مضاف: {إرم} أي أهلها وعمُدَّتْها، وأطلقها عليهم لشدة الملابسة لما لها من البناء العجيب والشأن الغريب، ثم بينها بقوله: {ذات} أي صاحبة {العماد} أي البناء العالي الثابت بالأعمدة التي لم يكن في هذه الدار مثلها، ولذا قال: {التي لم يخلق} أي يقدر ويصنع- بناه للمفعول إرادة للتعميم {مثلها} يصح أن يعود الضمير على (عاد) باعتبار القبيلة، على {إرم} باعتبار البلدة، وأوضح هذا بقوله معمماً للأرض كلها: {في البلاد} أي في بنائها ومرافقها وثمارها، وتقسيم مياهها وأنهارها، وطيب أرضها وحسن أطيارها، وما اجتمع بها مما يفوت الحصر ويعجز القوى، ولا مثل أهلها الذين بنوها في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم وغير ذلك من أمورهم، وكان صاحبها شداد قد ملك المعمورة كلها فتحيزها فبناها في برية عدن في ثلاثمائة سنة يضاهي بها الجنة على ما زعم- قلوب ضلت وأضلت وأضلها باريها- قال أبو حيان: على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يكون في الأرض مثلها، فلما تمت على ما أراد قصدها للسكن وعمره إذ ذاك تسعمائة سنة، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فأهلكهم فكانوا كأمس الذاهب، وأخفى مدينتهم فلم يرها أحد إلا عبد الله بن قلابة، خرج في طلب إبل ضلت له على زمن معاوية رضي الله عنه فوقع عليها، ولما خرج منها وانفصل عنها خفيت عنه، وكان قد حمل معه بعض ما رأى فيها من اللؤلؤ والمسك والزعفران فباعه، وسمع به معاوية رضي الله عنه فأرسل إليه فحدثه، فأرسل، معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأحبار فسأله عن ذلك فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أشقر أحمر قصير، على حاجبيه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذاك الرجل- ذكره شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف وقال: وآثار الوضع عليه لائحة، وقال جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما: الأوصاف كلها للقبيلة وهم عاد الأولى، واسمها إرم باسم جدهم، وكانوا عرباً سيارة يبنون بيوتهم على الأعمدة على عادة العرب، ولم يخلق مثلهم أمة من الأمم في جميع البلاد.
ولما بدأ بهؤلاء لأن أمرهم كان أعجب، وقصتهم أنزه وأغرب، ثنى بأقرب الأمم إليهم زماناً وأشبههم بهم شأناً لأنهم أترفوا بما حبوا به من جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، فجعلوا موضع ما لزمهم من الشكر الكفر، واستحبوا العمى على الهدى، مع ما في آيتهم، وهي الناقة، من عظيم الدلالة على القدرة فقال: {وثمود الذين جابوا} أي نقبوا وقطعوا قطعاً حقيقاً كأنه عندهم كالواجب {الصخر بالواد} أي وادي الحجر أو وادي القرى، فجعلوا بيوتاً منقورة في الجبال فعل من يغتال الدهر ويفني الزمان، قال أبو حيان: قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة.
ولما ذكر القبيلتين من العرب، ذكر بعض من جاورهم من طغاة العجم لما في قصتهم من العتو والجبروت مع ما حوته من الغرائب وخوارق العجائب لاسيما في القدرة على البعث بقلب العصا حية وإعادتها جماداً مع التكرر، وبإيجاد الضفادع والقمل من كثبان الأرض وغير ذلك فقال: {وفرعون} أي وفعل بفرعون {ذي الأوتاد} أي الذي ثبّت ملكه تثبيت من يظن أنه لا يزول بالعساكر والجنود وغيرهم من كل ما يظن أنه يشد أمره من الجنات والعيون والزروع والمقامات الكريمة، فصارت له اليد المبسوطة في الملك.
ولما كان المراد بفرعون هو وجنوده لآن الرأس يكنى به عن البدن، لأنه جماعة وبه قوامه، وصفه بوصف يجمع قومه وجميع من ذكر هنا فقال: {الذين} أي فرعون وجنوده وكل من ذكر هنا من الكفرة من عاد وثمود وأتباعهم {طغوا} أي تجاوزوا الحدود {في البلاد} أي التي ملكوها بالفعل وغيرها بالقوة {فأكثروا} عقب طغيانهم وبسببه {فيها الفساد} بما فعلوا من الكفر والظلم مما صار سنة لمن سمع به.
ولما كان ذلك موجباً للعذاب، سبب عنه قوله: {فصب} أي أنزل إنزالاً هو في غاية القوة {عليهم} أي في الدنيا {ربك} أي المحسن إليك المدبر لأمرك الذي جعل ما مضى من أخبار الأمم وآثار الفرق موطئاً لهم {سوط عذاب} أي جعل عذابهم من الإغراق والرجف وغيرهما في وقته وتمكنه وعلوه وإحاطته كالمصبوب في شدة ضربه ولصوقه بالمضروب وإسراعه إليه والتفافه به كالسوط وفي كونه منوّعاً إلى أنواع متشابكة، وأصله الخلط، وإنما سمي هذا الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض، ولأنه يخلط اللحم والدم، وقيل: شبه بالسوط ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بالترديد والتكرير إلى أن يهلك المعذب به وإيذاناً بأنه بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى السيف، هذا سوط الدنيا وسيف الآخرة أشد واحد وأمضى، ثم علل أخذه لكل ظالم وانتقامه من كل مفسد بأنه رقيب، فقال ممثلاً أن العصاة لا يفوتونه مؤكداً تنبيهاً على أن أعمال من ينكر ذلك أو لا يخطر بباله: {إن ربك} أي مولاك المدبر لأمر نبوتك {لبالمرصاد} أي لا يفوته شيء، بل هو قادر ومطلع على كل شيء اطلاع من يريده بالإقامة في مكان الرصد وزمانه مع غاية الحفظ والرعي وهو قادر على ما يريد. اهـ.

.الإسرائيليات في قصة إرم ذات العماد:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين: كالطبري، والثعلبي، والزمخشري، وغيرهم في تفسير قول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد إِرَمَ ذَاتِ العماد الَّتِي لَمْ يُخلق مِثْلُهَا فِي البلاد}.
فقد زعموا أن إرم مدينة، وذكروا في بنائها، وزخارفها ما هو من قبيل الخيال، ورووا في ذلك: أنه كان لعادٍ ابنان: شداد، شديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة، وسورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء، فهلكوا.
وروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها يعني مدينة إرم، فحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، وقص عليه فبعث إلى كعب الأحبار، فسأله عنها فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانه أحمر، أشقر، قصير، على حاجبه خال، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا والله ذاك الرجل.
وهذه القصة موضوعة، كما نبه إلى ذلك الحفاظ، وآثار الوضع لائحة عليه، وكذلك ما روي أن إرم: مدينة دمشق، وقيل: مدينة الإسكندرية، قال السيوطي في (الدر المنثور): وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: إرم هي دمشق، وأخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن عساكر عن سعيد المقبري مثله، وأخرج ابن عساكر، عن سعيد بن المسيب، مثله، قال: واخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إرم هي الإسكندرية.
وكل ذلك من خرافات بني إسرائيل، ومن وضع زنادقتهم، ثم رواها مسلمة أهل الكتاب فيما رووا، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين، وألصقت بتفسير القرآن الكريم، قال ابن كثير في تفسيره: ومن زعم أن المراد بقوله: {إِرَمَ ذَاتِ العماد}: مدينة إما دمشق، أو اسكندرية، أو غيرها، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد إِرَمَ ذَاتِ العماد} إن جعل بدلا أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لا المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، وإنما نبهت على ذلك؛ لئلا يُغتَرَّ بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب والفضة، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك... فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم؛ ليختبروا بذلك القول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك، وقال فيما روي عن ابن قلابة: فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك، أو أصابه نوع من الهوس، والخيال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وهذا ما يقطع بعدم صحته، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة، والطامعين، والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة... فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة، والسفهاء، فيأكلونها بالباطل، في صرفها في بخاخير، وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم.
الصحيح في تفسير الآية:
والصحيح في تفسير الآية: أن المراد بعاد، إرم ذات العماد، قبيلة عادة المشهورة، التي كانت تسكن الأحقاف، شمالي حضرموت، وهي عاد الأولى، التي ذكرها الله سبحانه في سورة النجم، قال سبحانه: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى}، ويقال لمن بعدهم: عاد الآخرة وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قال ابن إسحاق وغيره: وهم الذين بعث فيهم رسول الله هودًا عليه السلام فكذبوه، وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم، ومن آمن معه منهم، وأهلكهم {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثمانية أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ هَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة}.
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما وضع؛ ليعتَبِر بمصرعهم المؤمنون، فقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ العماد}: بدل من عاد أو عطف بيان زيادة تعريف بهم، وقوله تعالى: {ذَاتِ العماد} لأنهم كانوا في زمانهم أشد الناس خلقة، وأعظمهم أجساما، وأقواهم بطشا، وقيل: ذات الأبنية التي بنوها، والدور، والمصانع التي شادوها، وقيل: لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الغلاظ الشداد، والأول أصح وأولى، فقد ذكرهم نبيهم هود بهذه النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة الله تبارك وتعالى الذي خلقهم ومنحهم هذه القوة فقال: {وَاذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخلق بَسْطَةً فَاذكروا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}. وقوله هنا: {الَّتِي لَمْ يُخلق مِثْلُهَا فِي البلاد} أي القبيلة المعروفة المشهورة التي لم يخلق مثلها في بلادهم، وفي زمانهم؛ لقوتهم، وشدتهم وعظم تركيبهم.
ومهما يكن من تفسير ذات العماد: فالمراد القبيلة، وليس المراد مدينة، فالحديث في السورة إنما هو عمن مضى الأقوام الذين مكن الله لهم في الأرض، ولما لم يشكروا نعم الله عليهم، ويؤمنوا به وبرسله، بطش بهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ففيه تخويف لكفار مكة، الذين هم دون هؤلاء في كل شيء وتحذيرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.
ما روي في عظم طولهم لا يصح.
وليس معنى قوتهم، وعظم خلقهم، وشدة بطشهم، أنهم خارجون عن المألوف في الفطرة، فمن ثم لا نكاد نصدق ما روي في عظم أجسامهم، وخروج طولهم عن المألوف المعروف حتى في هذه الأزمنة، فقد روى ابن جرير في تفسيره، وابن أبي حاتم وغيرهما عن قتادة قال: كنا نحدث أن إرم قبيلة من عاد، كان يقال لهم: ذات العماد، كانوا أهل، {الَّتِي لَمْ يُخلق مِثْلُهَا فِي البلاد}، قال: ذكرنا لنا أنهم كانوا اثنى عشر ذراعا طولا في السماء، وهذا من جنس ما روي في العماليق، وأغلب الظن عندي أن من ذكر لهم ذلك هم أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنه من الإسرائيليات المختلقة.
وأيضًا لا نكاد نصدق ما روي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في هذا، فقد روى ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي، قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني معاوية بن صالح، عمن حدثه، عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال: «كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة، فيحملها على كاهله، فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم» ولعل البلاء، والاختلاق فيه من المجهول، وروى مثله ابن مردويه.
ولعن الله من نسب مثل هذا الباطل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشك أن هذا من عمل زنادقة اليهود والفرس وأمثالهم، الذين عجزوا أن يقاوموا سلطان الإسلام، فسلكوا في محاربته مسلك الدس، والاختلاق، بنسبة أمثال هذه الخرافات إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، وأنا أعجب لمسلم يقبل أمثال هذه المرويات التي تزري بالإسلام، وتنفر منه، ولاسيما في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم، والمعارف، وأصبح ذكر مثل هذا يثير السخرية، والاستنكار والاستهزاء. اهـ.